09 - 05 - 2025

صباحيات | صراعنا مع إسرائيل بين السردية الدينية والواقع

صباحيات | صراعنا مع إسرائيل بين السردية الدينية والواقع

تشتبك السردية الدينية للصراع مع إسرائيل بوصفها تجسيدا للمشروع الصهيوني مع إضفاء طابع ديني على الصراع في نقطة واحدة فقط تتعلق بتصور للصراع، كصراع بين اتباع اثنتين من الديانات الإبراهيمية، اليهود والمسلمين. وقد تعبر هذه النقطة تحديداً عن تحول في رؤية قطاعات عريضة من المتدينين في الطرفين للصراع لتضفي عليه بعدا يزيده تعقيداً. لكن باستثناء هذه النقطة فإن السردية الدينية للصراع تختلف عن تصويره كصراع ديني. فالسردية الدينية ترتبط بنبوءات تضمنتها الكتب المقدسة التي تشكل أساساً للعقيدة وردت في التوراة، التي باتت تشكل جزءا لا يتجزأ من الكتاب المقدس المكون من العهد القديم والعهد الجديد، الذي يتضمن الأناجيل الأربعة و27 سفراً ورسائل لبولس وتلاميذ السيد المسيح بالإضافة إلى أعمال الرسل، وسفر الرؤيا وهو السفر الوحيد من بين أسفار الكتاب المقدس الذي له صفة نبوية، والذي لا يُعرف مؤلفه على وجه التحديد، وهو السفر الوحيد في العهد الجديد الذي يتكلم عن أمور سماوية يصعب التعبير عنها بلغة بشرية فاستخدم لغة التشبيهات التي تصف مشاهد نهاية العالم بعد معركة فاصلة بين الخير والشر، وكثرت فيه الإشارات إلى العهد القديم. 

تتسم السردية الدينية بخصائص مشتركة، على الرغم من اختلاف المعتقدات الدينية والمذهبية التي تستند إليها. أهم هذه الخصائص تتمثل في ثنائية الخير والشر، والحتمية التامة للصراع بينهما، والحياة خارج التاريخ، وتجلي الإرادة الإلهية. وتشكل السردية الدينية اليهودية التي تتحدث عن أرض الميعاد، وهي الأرض التي خصها الله لنبيه إبراهيم ولليهود بوصفهم شعب الله المختار، الأساس الذي قامت عليه الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، رغم حقيقة أن مؤسسي الصهيونية وإسرائيل علمانيون، وأنهما، أي الصهيونية والدولة، يشكلان معا بالنسبة للمؤمنين معصية للرب، إذ تربط السردية اليهودية قيام الدولة وبناء الهيكل بقدوم النبي المنتظر الذي سيقود الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد. 

ثمة أوجه شبه كبيرة بين توظيف السردية الدينية من قبل الحركة الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي، خصوصاً لدى الطوائف الإنجيلية الغربية، وتحديداً في الكنيسة الإنجيلية الأمريكية، وبين التدخل البشري في السردية الشيعية الإمامية، والسعي لتوظيفها سياسياً، من خلال نظرية ولاية الفقيه التي وضعها آية الله الخميني، والتي يتبناها حزب الله، الذي أعلن في مواجهة مواقف معارضة في الشيعة أنه حزب ولاية الفقيه. أيضاً وفقا للمعتقد الشيعي التقليدي فإن المعركة الفاصلة مع قوى الشر المعادية مؤجلة إلى حين ظهور المهدي. 

حتمية الصراع واستحالة التعايش

لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الجولة الراهنة من الصراع، وهي الجولة الأكثر دموية والأطول أمداً والمرشحة لأن تتوسع إلى حرب شاملة على مستوى الإقليم قد تؤدي إلى اصطفاف للقوى العالمية بين معسكرين ينخرطان في حرب مدمرة قد تستخدم فيها أسلحة نووية، هي الحرب الأخيرة والفاصلة بين الخير والشر، إلا أن المؤمنين بالسردية الدينية من الطرفين يتحدثان عن علامات تشير إلى اقتراب البشرية من حرب النهاية الحتمية، ويؤمن كل طرف بأنه يقف إلى جانب الخير في مواجهة قوى الشر، وأنه لا حل لهذا الصراع إلا بتمكن أحد الطرفين من القضاء على الطرف الثاني والإجهاز عليه، ولا يرى أي منهما أي إمكانية للتعايش، ففي رأيهما فإن هذا التعايش بين الجماعتين مستحيل، ويرى المتطرفون على الجانبين أن أي شخص يسعى لتحقيق سلام مع العدو خائن مستحق للقتل، ويغلقان السبل أمام أي فرصة للتوصل إلى مثل هذه التسوية التي قد تضع حداً للحرب. بينما من الواضح أن هناك أطرافا في حكومة إسرائيل تتحرك انطلاقاً من السردية اليهودية وتسعى لفرض هيمنتها على الأراضي المقدسة في الضفة الغربية التي تقول السردية إنها بالإضافة إلى أورشليم (القدس)، فمن غير الواضح ما إذا كانت فصائل المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك الفصائل الإسلامية وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية حماس تتبنى السردية الشيعية أو أي سردية مماثلة لدى المسلمين السنة، لكن من المؤكد أنهم يؤمنون بحتمية الصراع واستحالة التعايش، رغم استعدادهما للتوصل إلى هدنة طويلة الأمد، إلا أنه ترى أن الحل النهائي سيكون بإقامة دولة فلسطينية على كامل أرض فلسطين التاريخية.

الإشكالية الكبرى في السردية الدينية تتمثل في الخلط بين الرؤية الإيمانية المطلقة وبين الواقع الفعلي النسبي، وبالتالي الانتقال بفكرة الخير والشر من مجالها المطلق الذي يتعلق بسلوك محدد يسلكه البشر على المستوى الفردي بالأساس، إلى مجال يربط الخير والشر بجماعات بشرية كاملة، على نحو لا يسمح برؤية أي تباين في مواقف الأفراد والقوى والجماعات داخل كل مجموعة، ويقترن بهذا الخلط بإيمان شديد بحتمية الانتصار المؤيد من الإله الذي يشير القوة الأعظم كلية الوجود وكلية الإرادة التي تؤمن بها كل جماعة، وإيمانها بأنها تحارب من أجل نصرته أو في سبيله. غير أن الواقع، لا يؤيد مثل هذه التكوينات الكلية الجامعة، إذ تتعدد الرؤى والاتجاهات والمواقف والتفسيرات داخل كل جماعة، لكن غالباً ما تصادر القوى المتطرفة التي تسلك سلوكا فاشيا تجاه المخالفين بحسب ما تسمح درجة سيطرتها على السلطة هذه التعددية وتجبر المخالفين على الإذعان لرؤيتهم وتصورهم، وسبيلهم في ذلك هو تأجيج روح العداء للجماعة الأخرى وإشاعة الترهيب والخوف في نفوس التابعين من أجل إحكام السيطرة عليهم من خلال إبقاء جذوة الصراع مشتعلة. وفي هذا السياق يمكن فهم سياسات بنيامين نتنياهو وأركان حكومته، الذي تستدعي تشددا مقابلاً لدى الطرف الفلسطيني والأطراف الإسلامية التي تواجهه، شيعية كانت أم سنية، وغالبا ما ينهك الصراع الطرفين وغالبا ما يتسم هذا الصراع بمستوى غير مسبوق من العنف وسفك الدماء والتدمير في حدود القدرات ومقومات القوة التي يمتلكها كل طرف، وحجم التضحيات التي يقدمها الأتباع عن طيب خاطر أو مرغمين من أجل الغايات العليا والسامية، على النحو الذي نراه في حرب غزة أو مع عائلات المخطوفين والأسرى في إسرائيل.

تفكيك السرديات الدينية

يبقى السؤال عما إذا كانت هناك إمكانية لتفكيك السرديات الدينية الحاكمة للصراع، وكيف يمكن تحقيق ذلك، في ظل صراع معقد مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ببعديه الإسلامي والعربي الذي يضفي عليه بعداً دينياً؟ وفي ظل وضع كهذا يكون من الصعب استنباط حلول من تجربة الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا مع الخروج من العصور الوسطى وهيمنة الكنيسة إلى العصور الحديثة مع بزوغ الدولة القومية وتشجيع حركات الإصلاح الديني والتحرر من سلطان الكنيسة وتفكك بنية الإقطاع. لقد أنهي هذا الوضع من خلال صلح وستفاليا عام 1648، الذي أنهى الصراع الديني والمذهبي والطائفي في أوروبا وأفسح المجال لحرية الاعتقاد والتسامح الديني. وأحد مجالات الصعوبة هو اعتماد السردية الدينية وفرضها على رؤية الصراع مرتبط إلى حد كبير باشتعال الصراع وعدم إفساح المجال لتطور التعايش بين الجماعات المختلفة دينياً وقومياً، بل والسعي إلى تخريب علاقات التعايش التي من الممكن أن تنشأ بين الجماعات نتيجة لأوضاع سياسية أو تاريخية، كالتي نشأت بين الفلسطينيين العرب واليهود، على أساس قاعدة المواطنة في مجتمعات قائمة على الهجرة والتعددية الثقافية مثل المجتمع الأمريكي أو حتى داخل إسرائيل.

ويعتمد جانب كبير من تفكيك تلك السردية على تفكيك بنية الصراع بتحويله من صراع صفري، إلى صراع غير صفري يتيح للأطراف المختلفة تحقيق بعض المكاسب وتقديم بعض التنازلات. ويرتبط بذلك مدى تطور النظام السياسي الداخلي إلى نظام ديمقراطي في الحكم والإدارة يسمح بتعددية الأفكار والقوى والمصالح. وبدلاُ من توسع النموذج الديمقراطي في العالم العربي، تشير تطورات السنوات الأخيرة إلى تراجع هذا النموذج في إسرائيل، وهو النموذج الذي سمح بتطور العلاقات بين العرب واليهود داخل الدولة الديمقراطية العلمانية لصالح فاشية دينية مغلقة تؤسس لدولة عدوانية تمارس القمع ضد المختلفين معها في الداخل وتتبني سياسات عدوانية ضد الدول والمجتمعات المجاورة. والمشكلة الأكبر هي أن هذا التحول يحدث في ظل فقدان الإيمان في قوة النموذج الديمقراطي على صعيد عالمي واتجاه معظم دول العالم بتأثير من الأزمة الاقتصادية الممتدة إلى بدائل شعبوية أو فاشية للديمقراطية، وفي ظل نظم كتلك تنتعش السرديات الدينية بصيغها المختلفة، لتعاني الشعوب نتيجة لسقوطها في تلك الحلقة الجهنمية المغلقة.  

قد يكون لتغليب الرؤية الواقعية في النظر إلى الصراع وتحليل أسبابه الجذرية ودوافعه الكامنة والقوى المحركة له تأثير في كسر هذه الحلقة لكن هذا يتطلب مجهودا شاقاً وخوض صراع ضد خصوم على الجبهتين أو تدخل قوة قاهرة قادرة على فرض إرادتها على طرفي الصراع، بشرط أن تكون تحيزاتها في أضيق حدود ممكنة.
--------------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات اخرى للكاتب

رسائل انتخابات الصحفيين وأولويات مجلس النقابة في الفترة القادمة